النضال من أجل الأنوثة.. حقوق النساء بين خطاب المحافظة والتحرر التقليدي
النضال من أجل الأنوثة.. حقوق النساء بين خطاب المحافظة والتحرر التقليدي
ظهر تيار اجتماعي وثقافي بين مجموعة من الشابات المحافظات في الولايات المتحدة، يقدّم نفسه بوصفه "نضالاً من أجل الأنوثة" في مواجهة ما يصفنه بـ"النسوية الليبرالية" التي شكّلت وعيهن في مرحلة المراهقة وبدايات الشباب.
ووفقا لصحيفة "نيويورك تايمز" يضع هذا التيار نفسه في قلب نقاش حقوقي معقّد يتعلق بحرية الاختيار، والحق في تقرير المصير، وحدود الاستقلال الجسدي والاجتماعي للنساء، من داخل خطاب محافظ يعيد تعريف الحقوق لا بإلغائها، بل بإعادة تأطيرها.
تُظهر المشاهد التي رصدتها الصحيفة في الحانات وقاعات الرقص والمؤتمرات والمنتجعات، تجمعاتٍ لشابات يرفعن شعارات تحتفي بسقوط النسوية، ويقدّمن تصورات بديلة عن الحياة "الجيدة"، تتأسس على الأمومة المبكرة، والتخفف من الطموح المهني، والتشكيك في وسائل منع الحمل، وربط الأنوثة بالعودة إلى أدوار جندرية تقليدية.
حالة استياء متراكمة
تعكس هذه الممارسات، كما تصفها الصحيفة، حالة استياء متراكمة من نموذج تحرري صُوِّر لهن بوصفه طريقاً مضموناً للسعادة، لكنه لم يحقق لهن الإشباع المتوقع.
وترصد الصحيفة، من خلال حضورها في هذه الفعاليات، إحساساً متنامياً لدى المشاركات بأن الضغوط التي يعشنها في العشرينات من العمر تفاقمت بفعل النسوية الليبرالية، لا بسبب القيود الاجتماعية التقليدية.
تربط الشابات بين الإرهاق المهني، والقلق الصحي، والتوتر النفسي، وبين خطاب نسوي ركّز، في نظرهن، على العمل والإنجاز بوصفهما معيار التحرر، متجاهلاً كلفة ذلك على الجسد والحياة الشخصية.
تُبرز هذه السردية توتراً حقوقياً واضحاً: فبينما تؤكد النسوية تاريخياً على حق المرأة في الاختيار، تسائل هؤلاء الشابات ما إذا كان هذا الاختيار حقيقياً، أم موجّهاً ثقافياً وإعلامياً، و تعيد هذه المقاربة تعريف مفهوم الوصاية، لا بوصفها قسراً خارجياً، بل منظومة توقعات اجتماعية أعادت إنتاج نفسها تحت شعارات التمكين.
الأنوثة كبديل
تتحرك عضوات هذا التيار، بحسب التقرير، بدافع حنين سياسي وثقافي إلى نمط حياة لم تعشه أغلبهن فعلياً، لكنه حاضر بقوة في المحتوى الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي، تستحضر هذه الرغبة عالماً مثالياً يُقدَّم عبر صور إنستغرام وحكايات رومانسية عن الأسرة والأمومة، أكثر مما يستند إلى تجارب تاريخية موثقة.
تُعبّر الشابات عن قلق متزايد من الجمع بين الطموح المهني والأمومة، وتُبدي كثيرات منهن تشكيكاً في الخبراء والمؤسسات الطبية، واقتناعاً بأنهن تعرضن للتضليل بشأن وسائل منع الحمل.
تربط الصحيفة هذا التوجه باهتمام خاص لدى النساء البيض بالحفاظ على شعور بالقوة والمكانة الاجتماعية، في سياق تحولات ديموغرافية وثقافية أوسع.
تُشير الصحيفة إلى وجود بنية تنظيمية وإعلامية داعمة لهذا التيار، تشمل متحدثات بارزات ومنصات إعلامية وبودكاستات موجهة للنساء، تُقدّم تحليلات محافظة ونصائح حياتية.
تذكر الرئيسة التنفيذية لمنظمة "ترنينغ بوينت" إريكا كيرك بوصفها إحدى الشخصيات المؤثرة، ضمن منظومة إعلامية تشكّلت رداً على ما يُسمى "عالم الرجال".
تعكس هذه الخطابات،أفكار باحثين ومؤثرين ساهموا في تشكيل اليمين الجديد، من معهد كليرمونت إلى مشروع 2025، مع تركيز خاص على عكس انخفاض معدلات المواليد، وإقناع النساء بالبقاء في المنزل، تربط هذه الرؤية بين مستقبل المجتمع واستعادة الأدوار الجندرية التقليدية.
تقول مؤلفة كتاب "عقول غاضبة: نشأة اليمين الجديد المؤيد لترامب" لورا فيلد إن هذا التوجه يسعى إلى "إعادة عقارب الساعة إلى الوراء" وإلهام العودة إلى الأدوار التقليدية، معتبرة أن رفض وسائل منع الحمل والزواج المبكر يعكس أصواتاً ثقافية أعمق وأكثر تجذراً.
خيبة الأمل من النسوية
توضح الصحيفة أن معارضة الشابات اليمينيات للحركة النسوية لا تنبع من فراغ، بل من نشأة داخل ثقافة متأثرة بأفكارها، وتستحضر التقرير نشأة هؤلاء في عصر مجلات موجهة للفتيات، وحملات إعلامية قدّمت النساء بوصفهن قادرات على الجمع بين التحرر الجنسي والطموح المهني بلا كلفة.
تُبيّن الطالبة الجامعية كاتالينا بوس أن الموجات الأولى من النسوية كانت ضرورية، بينما ترى أن الموجات اللاحقة بالغت في "كراهية الرجال" تستخدم كثير من الشابات مفردات النسوية نفسها في نقدها، في دلالة على استيعابهن التاريخ الذي يعارضنه.
تربط الصحيفة بين هذا التوجه وبين موجة نقد العمل التي ظهرت خلال جائحة كورونا، حيث شكك مفكرون تقدميون في جدوى تعريف الذات عبر العمل وحده، تُلاحظ تلاقياً بين هذا النقد اليساري واحتفاء اليمين بالأمومة والبقاء في المنزل.
تنقل الصحيفة عن سياسيين محافظين، من بينهم جيه دي فانس قبل توليه منصب نائب الرئيس، خطاباً يهاجم فكرة اعتبار الأمومة عبئاً على المرأة، ويقارنها بساعات العمل الطويلة في المؤسسات الكبرى، تُظهر هذه التصريحات توظيفاً سياسياً مباشراً للنقاش حول حقوق النساء.
تشرح الكاتبة والناشطة ريبيكا ترايستر أن تحميل النسوية مسؤولية الإحباطات المعيشية يوفّر متنفساً عاطفياً، ويخلق سردية مفادها أن وعود التحرر كانت كاذبة، وتؤكد أن هذا التأطير يفرغ الخطاب الحقوقي من تعقيده، ويحوّله إلى ثنائية تبسيطية.
ردة الفعل العنيفة
من جانبها، تحلل صحيفة "إل باييس" الاسبانية في نسختها الإنجليزية، هذا المشهد من زاوية أوسع، عبر مقابلة مع الصحفية الأمريكية والحائزة جائزة بوليتزر سوزان فالودي، التي تنبأت منذ التسعينيات بردّات الفعل المحافظة على حقوق المرأة، تصف فالودي المناخ الراهن بأنه أشبه برواية "سيد الذباب"، حيث يسود الخوف وانعدام الأمان وتفكك المؤسسات.
تستعيد فالودي تجربتها مع كتابها "ردة الفعل العنيفة" الصادر عام 1991، والذي وثّق، وفق وصفها، الحرب غير المعلنة على حقوق المرأة الأمريكية. تؤكد أن ما كان خفياً آنذاك أصبح اليوم صريحاً وقاسياً، مع هجوم مباشر على الحقوق الجسدية والإنجابية، وإقصاء النساء من سوق العمل.
تُذكّر فالودي بأن الخطاب المعادي للنسوية في الثمانينيات والتسعينيات اتخذ شكلاً ناعماً، في حين يتسم اليوم بعنف تشريعي وسياسي مباشر. تُشير إلى مشاريع قوانين تعاقب النساء على الإجهاض، وإلى ملء مؤسسات الحكم بشخصيات متهمة بجرائم عنف جنسي.
تنتقد فالودي أيضاً الموجة الرابعة من النسوية، معتبرة أنها اكتسبت انتشاراً رمزياً دون أن تنعكس على تحسن ملموس في حياة النساء، خاصة بعد الأزمة الاقتصادية عام 2008، تلفت إلى أن شعارات "المستقبل للنساء" لم تمنع تدهور شروط العيش.
تحذر فالودي من انقسامات داخل الحركة النسوية نفسها، خاصة حول قضايا الجندر، وترى أن هذه الصراعات تخدم اليمين الذي يوظف خطاب "المساواة" لتمرير سياسات تقييدية، تؤكد أن القيود الجندرية العقابية تطال الجميع.
تختتم فالودي قراءتها بالتشديد على أن الخوف أصبح أداة سياسية، تُشلّ الفعل الجماعي وتُضعف الدفاع عن الحقوق المكتسبة، تربط هذا المناخ بإحساس عام بأن التقدم توقف، وأن الحقوق التي اعتُبرت راسخة باتت مهددة بإعادة تعريفها من جديد، لا بوصفها حقوقاً، بل أدوار.











